علم الآثار عن بعد
بقام فاروق الباز
الحلقة الثانية و الأخيرة
جذور مصر القديمة
استخدمت على الخصوص الصور الرادارية للصحراء الغربية المصرية بالقرب من الحدود مع السودان.الأرض مغطاة بطبقة سميكة و مستوية من الرمال، و لا تتخللها إلا بعض التلال.اكتشفنا في الصور الرادارية سررا جافة لثلاثة أنهار كبرى عرض الواحد منها عشرون كيلومترا.أما التلال فكانت جزرا صنعها الحت النهري.و قد أكدت الفؤوس التي اكتشفها الأركيولوجيون على ضفاف طرق الملاحة هذه أن البشر قد استوطنوا تلك المنطقة قبل 200000 سنة.كيف كان يتسنى لنا معرفة ماضي هذه المنطقة المدفونة تحت خمسة أمتار من الرمال بدون الرادار؟
إن هذا الاكتشاف يؤكد الفرضية القائلة بأن الصحراء الغربية المصرية التي تعد اليوم من أكثر مناطق العالم جفافا،كانت قبل ما يتراوح بين 5000 سنة و 11000سنة ذات مناخ رطب . حسب فرد ونيدهورف Fred Wendhorfمن الجامعة الميتودية الجنوبيةUniversité méthodiste méridionale ، فان كمية الأمطار في هذه المنطقة ارتفعت بما يتراوح بين 1 ملم و 20 ملم في السنة قبل 11000 سنة . عندئذ ظهرت أعشاب وشجيرات شوكية شبيهة بتلك الموجودة اليوم في المناطق الصحراوية الجدباء مثل وادي الموت في كاليفورنيا. مع أن المناخ تميز بعدة فترات من الجفاف وترعرعت ثقافة قائمة على تربية المواشي و الرعي
تتزامن نهاية الفترة الرطبة في الصحراء قبل 5000 عام مع ظهور الحضارة المصرية القديمة.قد يكون هذان الحدثان مترابطين في شرق الصحراء الذي أصبح أكثر جفافا.دفع هذا الجفاف الناس الذين كانوا يعشون هناك إلى الاقتراب من المصدر الوحيد الثابت و المستقر للمياه و هو نهر النيل و امتزجوا بالسكان المستقرين، قبلهم، على صفتي النهر.و يبدو أن امتزاج الثقافات قد أثمر. عاش سكان الضفتين في انسجام مع النهر، بقياس قوة فيضاناته السنوية و إنشاء قنوات لسقي حقولهم و كان تفكيرهم منصرفا إلى الأرض فطوروا معارفهم. أما رحل الغرب فكانت لهم حكمة الصحراء وكيفوا معيشتهم مع الأمطار الشحيحة والبحث عن البراري المعشوشبة. و للإفلات من حرارة الشمس الشديدة كانوا يتنقلون ليلا واهتموا بالفلك.لقد كانت أنظار هؤلاء البدو متجهة نحو السماء بحثا عن مكان الإنسان في الكون و نعثر على هذه النزعة الفلسفية عبر كل تاريخ مصر
لقد أدى وصول البدو إلى ضفاف النيل و مضاعفته لعدد السكان إلى فرض تنظيم اجتماعي أفضل بغرض إنتاج الكفاية من الغذاء و الطعام.و قد أنشأ التفاعل الثقافي بين الفئتين مجتمعا جديدا كان أساس
الحضارة المصرية القديمة
الاستشعار عن بعد من سطح الأرض
توجد أدوات أخرى للاستشعار عن بعد ما تزال قليلة الاستعمال تسهل العمل الميداني لعلماء الآثار. على العموم عندما يدرس هؤلاء موقعا ما يؤطرونه بحبال و يقومون بالسبر في نقاط التقاء المربعات و يكون احتمال مجانبة الاكتشافات كبيرا في هذه الحالة.و على العكس من ذلك، يبن الاستشعار السطحي عن بعد مسبقا أهم المواقع و بذلك يقلص المساحات التي يجب الحفر فيها و يوفر بذلك وقتا كبيرا و ثمينا
لقد استخدمت" آنا روزفلت Anna Roosevelt" من متحف شيكاغو تلك الأدوات لدراسة ثقافات ما قبل التاريخ في الجزء البرازيلي من الأمازون.و قد قلبت تلك الأعمال الكثير من النظريات.ففي جزيرة " ماراجوMarajo " عند مصب نهر الأمازون استخدمت أدوات متنوعة لدراسة التلال التي أنشأها السكان الذين كانوا يعيشون من الصيد و الزراعة و الجمع (الالتقاط).و قد مكن مسح أنجز بواسطة مغنيطومتر بروتوني لعدة تجمعات تغطي مساحة عرضها ثلاثة هكتارات و يتراوح ارتفاعها بين 7 و 10 أمتار باكتشاف تجمعات كبرى مبنية بالطين لعدة منازل.
كشف رادار سبر أرضي طبقات ترابية مقلبة أو منبوشة في حين بينت قياس درجة النقل الكهربائي للتربة البنية السفلية أو العميقة للميدان بطبقات مختلفة و تعديلات مرتبطة بوجود بناءات، مساكن و طمر بالنفايات.و كشف سيسمو متر عدة مراحل في البناء و كذا الوضعية الأصلية للتربة التي بنيت عليها التلال أو الروابي (tertres)
تعطي هذه النتائج إضافة إلى الحفريات التي تلتها صورة عن الحياة على ضفاف الأمازون بين سنة 500 م وتاريخ وصول الأوروبيين في منتصف القرن 12 !!!
كانت شعوب "ماراجو" تعيش في أقاليم منفصلة و كانت في حروب بعضها ضد البعض الآخر.كانت تعيش من التقاط الثمار وجني محاصيلها .كانت مساكنهم فوق قمم الروابي مرتفعة عن المستنقعات.كانوا ،طيلة قرون، يبنون مساكنهم فوق أطلال المساكن السابقة، كانت هذه الثقافة المتقنة ذات أصل محلي خلافا للفرضية القائلة أن كثافة الغابة منعت المجتمعات الهندية من التطور. Se complexifier
بالقرب من "سانتاريم Santarém " في شمال شرق البرازيل اكتشفت "آنا روزفلت" أمرا مهما يتعلق بتاريخ تعمير أمريكا، لأنه يبرهن على أنه ،على عكس ما كان يعتقده علماء الآثار، لم يؤت بالأواني الفخارية poteries إلى الأمازون من قبل هنود المكسيك و البيرو.لقد كشف رادار ذو ولوج أرضي و دراسات اهتزازية، بالفعل، وجود أواني أمازونية أقدم بآلاف السنين من تلك التي عثر عليها في غرب القارة مؤكدة بذلك هذا الاكتشاف.
إن الخطر الوحيد الذي يهدد المواقع الأثرية بعد تنقيبها هو الإتلاف الذي قد تتعرض له من قبل التعرية أو من طرف الزوار أو من طرف اللصوص
إن معالم شهيرة و قيمة مثل معابد أنكور في كمبوتشيا و ماشوبيشو في البيرو تتعرض للتدهور و أفضل وسيلة للحفاظ على موقع أثري هو دراسته مع عدم إلحاق الضرر به قدر الإمكان
زورقا الفرعون خوفو
تعود أولى محاولاتي لاستعمال الاستشعار عن بعد إلى عام 1987 أثناء الأشغال التي مست الهرم الأكبر في الجيزة الذي بناه الفرعون خوفو قبل 4600سنة.يضم هذا الهرم غرفتين مغلقتين بإحكام عند قاعدته. الأولى فتحت عام 1954 وكانت تحتوي على زورق مفكك طوله 43.4 متر و عرضه 5.9.تطلب إخراج هذا الزورق الملكي و إعادة تركيبه 18 عاما ووضع في آخر المطاف في "متحف ملاحي" بني لذلك الغرض في عين المكان. هذا المركب معروض للجمهور منذ 1982 و يحظى بالزيارة من قبل أعداد كبيرة من الزائرين
و مع ذلك فهو مهدد إذ يكون طوله قد تقلص ، منذ أن وضع في المتحف، ب50 سنتمترا لأن الجو في المتحف يختلف عن الجو في داخل الهرم ، ولذلك دعيت لدراسة الظروف المناخية داخل الغرفة الثانية المغلقة بإحكام و كان الظن غالبا أنها تحتوي على زورق ثان ، وتقديم اقتراحات للحفاظ على الزورق الأول.
لأخذ عينة من هواء الغرفة الثانية التي كنت اعتقد أنها محكمة الإغلاق مثل الغرفة السابقة استعنت ب"بوب مورز Bob Moores" و هو مهندس في شركة "Black et Decker "ساهم ف ابتكار آلة ثاقبة قمرية (Lunaire)يستخدمها رجال الفضاء. صنع هذا المهندس عازلا sas يسمح بثقب الصخر دون السماح للهواء الموجود بداخل الغرفة بالاختلاط بالهواء الخارجي و استخدمنا رادار سبر أرضي لمعرفة شكل الغرفة و اختيار موضع ملائم لإحداث الثقب
بعد يومين و نصف من الحفر ثقبنا الصخرة بسمك 159 سم و أدخلنا عندئذ مسبارا و أخذنا هواء من ثلاث ارتفاعات متباينة، ثم أنزلنا كاميرا في الثقب و اكتشفنا خطوطا هيروغليفية على الجدران كما اكتشفنا الزورق الثاني كما كان منتظرا. أكد وجود عفن الرطوبة على الجدران و مشاهدة صرصور صحراوي حيا داخل الغرفة أن هذه الغرفة كانت متصلة بالخارج.غير أننا لم نشأ إعطاب الزورق الموجود بالداخل فسددنا الثقب وتركنا الماضي الملكي على الحال التي وجدناه عليها
إن الأركيولوجيا غير المخربة تذهب إلى أبعد من هذا فقد كشف علماء آثار إنجليز مدينة رومانية rتحت قرية " وروكستر Wroxeter " دون إلحاق أي ضرر بالقرية و لا بالحقول المحيطة بها و تعرفوا على الطرق والمخازن أو الدكاكين و ما يعتقد بأنه كنيسة.و يعطي تمثيل الكتروني قائم على القياسات التي أجريت صورة عن هذه المدينة الكثيرة السكان و المندثرة في الوقت الراهن.
في بحثنا عن الماضي المدفون تحت الأرض سنعرف عن الأشياء، في المستقبل القريب، أكثر مما لو لامسناها باستخراجها
من الأرض
المصدر
L'archéologie à distance,FAROUK EL BAZ. POUR LA SCIENCE - N ° 240 OCTOBRE 1997
ترجمة :كاتب مدونة تاج